الفريق سعد الدين شاذلي مهندس حرب 1973 الذي قاد الجيوش الى نصر عربي مؤزر |
بطل حرب أكتوبر.. عزله السادات وسجنه مبارك وكرمته الثورة
يقول عسكريون من مصر وسوريا خدموا مع الرجل بأنه أكثر شخص ظلم في مصر، فهو "مهندس حرب أكتوبر " وبطلها .
يوصف بأنه المدبر والمفكر للهجوم المصري الأسطوري على خط الدفاع الإسرائيلي "بارليف" في حرب تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973، وهو واضع خطة "العبور" كاملة.
يقولون أيضا :" هذا الرجل فعل المستحيل في حرب أكتوبر، بداية من مراحل الإعداد ووصولا إلى النصر".
ورغم أنه عسكري محترف لم يعرف في حياته سوى الجندية، إلا أنه رحل عن الدنيا دون أن يكرم على إنجازه البطولي في الحروب التي خاضها.
الفريق سعد الدين الشاذلي المولود عام 1922 بمحافظة الغربية في دلتا النيل لأسرة متوسطة الحال، كان والده من الأعيان (ملاك أراضي)، التحق بالكلية الحربية وتخرج منها عام 1940 برتبة ملازم في سلاح المشاة .
انتدب الشاذلي عام 1943 للخدمة في الحرس الملكي، وشارك في تلك الفترة في حرب فلسطين عام 1948، ومنها بدأت علاقته بالرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر الذي كان يسكن في نفس العمارة بالعباسية بالإضافة إلى قيامهما بالتدريس في "مدرسة الشؤون الإدارية"، وحين فاتحه عبد الناصر حول تنظيم "الضباط الأحرار" رحب الشاذلي بالفكرة وانضم للتنظيم، ولكنه لم يشارك في ليلة 23 تموز/ يوليو عام 1952 بشكل مباشر كونه كان في دورة في كلية أركان الحرب.
سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية في بعثة تدريبية عام 1953 في سلاح المظلات، تولى بعدها مهمة قيادة سلاح المظلات المصري أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
أرسله عبد الناصر عام 1960 مع كتيبة مظلات إلى الكونغو كجزء من قوات الأمم المتحدة بطلب من رئيس الوزراء لومومبا، وبالتنسيق مع أمين عام الأمم المتحدة داغ همرشولد لحفظ الأمن والقانون، وبهدف منع بلجيكا من العودة إلى احتلال بلاده من جديد.
تطورت الأحداث في الكونغو وقاد الجنرال موبوتو سيسي سيكو انقلابا عسكريا وسيطر على البلاد، وتمكن لومومبا من الهرب إلا أنه اعتقل وقتل في عام 1961. بعد مقتل لومومبا أحس الشاذلي بالخطر وقرر بشكل منفرد تسريب جنوده من مواقعهم، كما أمن تهريب أبناء لومومبا إلى مصر قبل انسحاب الكتيبة المصرية.
أظهر الشاذلي مهنية وقدرة كبيرة على القيادة والمناورة بقواته خلال نكسة حزيران/ يونيو عام 1967، وبعد ضرب سلاح الجو المصري وتدميره على الأرض واجتياح سيناء، اتخذت القيادة المصرية قرارها بالانسحاب دون دعم جوي، ما نتج عنه خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات.
في تلك الأثناء، انقطع الاتصال بين الشاذلي وقيادة الجيش في سيناء، وعبر الشاذلي بقواته شرقا وتخطى الحدود الدولية وتمركز بقواته داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة شرقا داخل صحراء النقب. وبقي الشاذلي في النقب لمدة يومين إلى أن تمكن من الاتصال بالقيادة العامة بالقاهرة التي أصدرت إليه الأوامر بالانسحاب فورا.
وتمكن بحرفية أن يقطع أراضي سيناء كاملة من الشرق إلى الشط الغربي لقناة السويس في عملية انسحاب عالية الدقة، ومن دون أي دعم جوي، إلى أن وصل الضفة الغربية للقناة، وكان بذلك آخر قائد مصري ينسحب بقواته من سيناء قبل أن تتم عملية نسف الجسور المقامة بين ضفتي القناة.
على أثرها اكتسب الشاذلي سمعة كبيرة في صفوف الجيش المصري، فعين قائدا للقوات الخاصة والصاعقة والمظلات في الفترة ما بين عامي 1967 و 1969.
أثناء حرب الاستنزاف، رأى عبد الناصر أن الشاذلي أنسب شخص يستطيع وقف اختراقات "إسرائيل" لمنطقة البحر الأحمر وتأمين المنطقة، وقام بتعيينه قائدا لمنطقة البحر الأحمر العسكرية عام 1970، وتمكن من وقف عمليات الاختطاف التي كانت تتم ضد مدنيين وموظفين كانوا يؤخذون كأسرى من جانب القوات الإسرائيلية .
بعد إطاحة الرئيس أنور السادات بأقطاب العهد الناصري في عام 1971، عين الشاذلي رئيسا لأركان حرب القوات المسلحة المصرية، لكفاءته و قدرته العسكرية ولخلفيته الغنية التي اكتسبها من دراسته بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي في العلوم العسكرية إلي جانب تاريخه العسكري.
عند تعيين الشاذلي رئيسا لأركان القوات المسلحة المصرية كان وزير الحربية وقتئذ الفريق أول محمد صادق الذي دخل معه في خلافات حول خطة العمليات الخاصة بتحرير سيناء.
ولم يأت عام 1972 حتى أقال السادات محمد صادق لاختلافه مع رؤيته لتحرير الأرض، واقتناعه برؤية الشاذلي، وعين المشير أحمد إسماعيل علي وزيرا للحربية، والذي كان قد أحيل للتقاعد في أواخر أيام عبد الناصر والذي بينه وبين الشاذلي خلافات قديمة، ولكنهما التزما بالعمل فيما بينهما للإعداد ل"حرب أكتوبر".
شن الجيشان المصري والسوري في 6 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973 ، تزامنا مع شهر رمضان المبارك، هجوما على القوات الإسرائيلية، بطول الجبهتين، ونفذ الجيش المصري خطة "المآذن العالية" التي وضعها الشاذلي بنجاح غير متوقع.
وحققت القوات المصرية نجاحا مؤثرا في معركة القناة، وعبرت أصعب مانع مائي في العالم وحطمت "خط بارليف" في 18 ساعة، وانتهت أسطورة "خط بارليف" التي كان يتغنى بها الإسرائيليون.
وكان السادات وإسماعيل قد أعدا خطة التطوير بزيادة مساحة تحرك الجيش في الحرب دون قناعة الشاذلي، فخسرت القوات المصرية جزء كبير من قوتها الضاربة الرئيسية في ساعات معدودة نظرا للتفوق الجوي الإسرائيلي، وكان قرار التطوير، وبتقدير الكثيرين من المتابعين للشأن العسكري، "أسوأ قرار استراتيجي اتخذته القيادة السياسية".
ونتيجة للفوضى في اتخاذ القرار العسكري اكتشفت طائرة استطلاع أمريكية وجود ثغرة غير محمية وبعرض 25 كيلو بين الجيش المصري الثالث الميداني في السويس والجيش الثاني الميداني في الإسماعيلية.
وقام الأمريكان بإبلاغ الإسرائيليين بالمعلومات وتمكن الجيش الإسرائيلي من اجتياز قناة السويس إلى ضفتها الغربية بين الجيشين الثاني والثالث بالقرب من "البحيرات المرة"، أدى عبور هذه القوة إلى إحداث ثغرة في صفوف القوات المصرية عرفت باسم "ثغرة الدفرسوار"، وتم نصب جسر طوف لعبور الدبابات والآليات المدرعة. وتمكن لواءان من العبور والتواجد إلى غرب القناة بقيادة الجنرال أرئيل شارون قائد الفرقة المدرعة الإسرائيلية 143.
اقترح الشاذلي المناورة بالقوات وسحب فرقتين مدرعتين من شرق القناة، وباستخدام هاتين الفرقتين يتم توجيه ضربة رئيسية للواءين الإسرائيليين غرب القناة.
ورفضت خطة الشاذلي ، وهنا وصلت الأمور بين السادات والمشير إسماعيل من جهة وبين الشاذلي من جهة اخرى إلى مرحلة الفراق، وقام السادات بإقصاء الشاذلي لفترة مؤقته خلال الحرب وعين محمد عبد الغني الجمسي بدلا منه ليقوم بالتعامل مع "الثغرة".
ازداد تدفق القوات الإسرائيلية، وتطور الموقف سريعا، إلى أن تم تطويق الجيش الثالث بالكامل في السويس، ووصلت القوات الإسرائيلية إلى طريق السويس - القاهرة، ولكنها توقفت لصعوبة الوضع العسكري بالنسبة لها غرب القناة.
أنهيت خدمات الشاذلي كرئيس لهيئة أركان القوات المسلحة اعتبارا من كانون الأول/ ديسمبر عام 1973، وصدر قرارا آخر بتعيينه سفيرا في وزارة الخارجية.
وحين رفض الشاذلي العرض وفضل البقاء في منزله، أصر السادات عليه ونجح في إقناعه بالسفر إلى لندن بحجة أنه ستتم عملية إعادة تنظيم للقوات المسلحة بأسلحة غربية، وهذا ما دفع الشاذلي للموافقة، وغادر إلى لندن عام 1974 وبعد قيامة بالاتصال بالسفير الألماني في لندن اكتشف الشاذلي أنه لا توجد صفقات أسلحة.
قوبل الشاذلي في لندن بحملة شرسة من اللوبي الصهيوني، موجهين إليه تهمة أنه إبان حرب تشرين الأول/ أكتوبر، أمر جنوده بقتل الأسرى اليهود، وهي تهمة نفاها الفريق الشاذلى في سلسلة من الظهور الإعلامي في جميع وسائل الأعلام البريطاني.
وبقي في لندن حتى عام 1975 نقل بعدها إلى لشبونة في البرتغال حتى عام 1978 بعد توقيع السادات لمعاهدة "كامب ديفيد"، وهي "المعاهدة" التي انتقدها الشاذلي بشدة وعارضها علانية، وهاجم السادات واتهمه بالديكتاتورية، واتخذ القرار بترك منصبه سفيرا لدى البرتغال والذهاب إلى الجزائر كلاجئ سياسي.
في عام 1978 أصدر السادات مذكراته "البحث عن الذات" واتهم فيها الفريق الشاذلي بالتخاذل وحمله مسؤولية التسبب ب"الثغرة" ووصفه بأنه عاد منهارا من الجبهة وأوصى بسحب جميع القوات في الشرق، وهذا ما دفع بالفريق الشاذلي للرد على السادات بنشر مذكراته "حرب أكتوبر"، والذي يعتبر من أدق الكتب إلى تحدثت عن الحرب.
اتهم الشاذلي في كتابه السادات باتخاذ قرارات خاطئة رغما عن جميع النصائح من المحيطين به من العسكريين، وتدخله المستمر في الخطط العسكرية أثناء سير العمليات على الجبهة مما تسبب في "الثغرة" وتضليل الشعب بإخفاء تدمير حائط الصواريخ، وحصار الجيش الثالث لمدة فاقت الثلاثة أشهر كانت تصلهم الإمدادات تحت إشراف الجيش الإسرائيلي.
تسبب نشره للكتاب في محاكمته غيابيا في عهد الرئيس المصري محمد حسني مبارك عام 1983 وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات مع الأشغال الشاقة، بتهمة نشر كتاب بدون موافقة مسبقة عليه، وإفشاء أسرار عسكرية في كتابه، ووضعت أملاكه تحت الحراسة، كما تم حرمانه من التمثيل القانوني وتجريده من حقوقه السياسية.
قبلها كان السادات يأمر بالتخلص من جميع الصور التي يظهر فيها الشاذلى إلى جواره داخل غرفة العمليات، واستبدالها بصور يظهر فيها الجمسي في محاولة منه بمحو أي دليل يشير إلى دور الشاذلي في معركة العبور.
عاد الشاذلي إلى مصر عام 1992 وقبض عليه فور وصوله مطار القاهرة وصودرت منه جميع الأوسمة والنياشين، وأجبر على قضاء مدة الحكم بالسجن الحربي.
وما لبث أن صدر عام 1993، قرار الإفراج عن الشاذلي عن طريق عفو عام، وبعد خروجه عاش منعزلا بعيدا عن الناس، وعاد لقريته وخصص أرضا كوقف للإنفاق على مسجد، وعاش كخبير استراتيجي يكتب ويحلل كل ما يدور على الساحة.
كان الفريق الشاذلي الوحيد من قادة "حرب أكتوبر" الذي لم يتم تكريمه بأي نوع من أنواع التكريم، وتم تجاهله في تكريم السادات لقادة الحرب.
كما عانى الشاذلي من التجاهل في فترة مبارك ، وكان الشاذلي ضحية من ضحايا التجاهل كما حدث للجمسي والمشير محمد علي فهمي و الفريق أول فؤاد ذكري، ونُزعت صورته من بانوراما "حرب أكتوبر" ووضعت مكانه صورة مبارك في تزوير مفضوح، وتم إيقاف معاشه المستحق عن نجمة الشرف العسكرية وعاش العشرين عاما الأخيرة من حياته على إيرادات قطعة أرض ورثها عن أبيه.
ظهر الشاذلي في بعض القنوات الفضائية كمحلل عسكري وفي البرامج التي تناولت "حرب أكتوبر" في أواخر تسعينات القرن الماضي. وتمت الاستعانة به كمحلل عسكري عام 2003 أثناء حرب العراق وغزوها من القوات الأمريكية.
أبرز ظهور إعلامي له كان على قناة الجزيرة عام 1999 في حلقات مطولة من برنامج "شاهد على العصر" مع أحمد منصور.
باستثناء ما كتبه السادات وما مارسه نظام مبارك ضده فقد حفلت سيرته المهنية بالمحطات المشرقة ، يقول وزير الحربية ورئيس المخابرات العامة المصرية الأسبق أمين هويدي :" أن اختلافات كثيرة في الرأي سادت قبيل اتخاذ أي قرار عسكري خاص بحرب أكتوبر بين السادات وقيادات الجيش، وأؤكد أن آراء الشاذلي العسكرية، كانت أصوب من قرارات السادات والجمسي وإسماعيل".
يؤكد هذه الرواية رئيس إدارة الشئون المعنوية في "حرب أكتوبر" اللواء سمير فرج بقوله:" إن تهميش الشاذلي واستبعاده بسبب خوف رجال النظام بعد الحرب من بزوغ نجمه على الساحة السياسية في مصر، وأن يخطف الأضواء منهم، لقد أدركت أن نهاية الشاذلي في الحياة العملية أوشكت على النهاية عندما رأيت صورته تتصدر غلاف مجلتا " الحوادث العربية " و " الباري ماتش " الفرنسية باعتباره أول رئيس أركان الحرب العربية المنتصرة."
يقول المفكر والدبلوماسي الدكتور مصطفى الفقي :"عندما زرت الجبهة السورية وبيروت عقب الحرب كان الضباط السوريون يحملونني تحياتهم ومحبتهم إلي الشاذلي، وفي بيروت كانت صورته قد طبعت في لوحات ضخمة، كان يتحول إلي بطل، وأعتقد أن هذا أحد الأسباب التي أدت إلي تكثيف الحملة ضده، بالإضافة إلي الخلاف في إدارة العمليات".
الكاتب والأديب جمال الغيطاني الذي عمل مراسلا حربيا في الحرب يؤكد أن " الشاذلي لم يرتكب أي خطأ عسكري ".
حتى الأعداء لم يكن أمامهم مفر إلا الإشادة به، يقول وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشيه ديان: "المصريون كانوا يملكون قائدا عظيما يعرف باسم الشاذلي ، إنه حقا من أذكي القاده العسكريين، أنني أقولها للتاريخ فقط وليس لمصلحه فهو من أشجع الضباط المصريين."
ويتفق معه قائد فرقه ضباط احتياط أثناء الحرب أرييل شارون حين يؤكد "إن الشاذلي من أذكي الضباط المصريين عسكريا إنه محترف بكل المقاييس يجب علي إن أعترف بذلك."
توفي الشاذلي عام 2011 ، بالمركز الطبي العالمي التابع للقوات المسلحة، وجاءت وفاته في عنفوان ثورة 25 كانون الثاني/ يناير عام 2011 في مصر، وبعد يوم واحد من استقالة مبارك، وقام ثوار ميدان التحرير بأداء صلاة الغائب على روحه، و شيع في جنازة عسكرية وشعبية مهيبة حضرها آلاف الضباط والجنود من أفراد القوات المسلحة.
ظل الفريق الشاذلي منسيا لمدة 19 عاما بعد الإفراج عنه، ولم يدع إلى أي نوع من الاحتفالات الخاصة ب"حرب أكتوبر" لحين وفاته. وبعد الثورة أعاد المجلس الأعلى للقوات المسلحة نجمة سيناء لأسرة الشاذلي عام 2011 بعد تنحي مبارك بأسبوعين. وفي عام 2012 منحه الرئيس المصري الراحل محمد مرسي قلادة النيل العظمى لدوره الكبير في "حرب أكتوبر"، كما منحها أيضا للرئيس الراحل أنور السادات لدوره في الحرب.
في ذكرى حرب أكتوبر، يتذكر العرب بطلا مصريا ، كان عسكريا محترفا وشجاعا، خاض جميع حروب الأمة العربية ، رفض صلح السادات المنفرد مع الاحتلال ، ورأى أنه سيمزق الأمة العربية ويضعفها، تجاهلته المؤسسة الرسمية وكرمه الشعب المصري والعربي بما يليق ببطل استثنائي.